انقسامات حول غزة- هل الموقف من إيران يطغى على التضامن مع فلسطين؟

في أعقاب جولة التصعيد الأخيرة في قطاع غزة بين قوات الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، وبالأخص حركة الجهاد الإسلامي، والتي انتهت بوساطة ومبادرة وضمانات مصرية كما أُعلن، لم تشهد مواقف الأطراف المختلفة تحولات جذرية مقارنة بالمواجهات السابقة. ومع ذلك، برزت ظاهرة جديدة تتبلور في هذا النوع من الأحداث، ألا وهي ميل البعض إلى تقييم الصراع وتحديد مواقفهم بناءً على موقفهم من إيران فحسب.
كما هو الحال في المواجهات المتكررة بين "الإسرائيليين" والفلسطينيين، اتسمت مواقف غالبية الأطراف في العالم العربي، سواء على المستوى الشعبي أو النخبوي، بإدانة واضحة للعدوان والتعبير عن دعمهم للفلسطينيين الذين يرزحون تحت وطأته. ورغم وجود ملاحظات وانتقادات لدى البعض تجاه بعض فصائل المقاومة الفلسطينية واختلافات في وجهات النظر حول كيفية التعبير عن هذه المواقف، إلا أن الدعم ظل ثابتاً.
إلى هذا المشهد المألوف، والذي تتخلله في العادة مواقف فاترة من بعض الدول العربية والإقليمية، أُضيفت في هذه الجولة شرائح جديدة من الآراء التي لم تنظر إلى الحدث من منظور القضية الفلسطينية بمظلوميتها الجلية، ولا من زاوية العدوان "الإسرائيلي" بتاريخه المترسخ، ولا حتى من خلال مقارنته بالمواجهات السابقة أو تحليل التطورات الدولية والإقليمية والمحلية التي ربما أسهمت في نشأته، بل اقتصرت رؤيتها على موقفها من إيران.
شرائح جديدة من التحليلات
تجسدت هذه الشرائح الجديدة بصورة أساسية في فئتين:
- الفئة الأولى: تتكون من كتّاب وإعلاميين مرتبطين ببعض الأنظمة الإقليمية، الذين زعموا أن إيران هي من افتعلت الحرب الأخيرة في غزة بهدف تحقيق مكاسب خاصة، مثل تعزيز موقفها في مفاوضات الاتفاق النووي الجارية والمتعثرة منذ فترة. ويتجاهل هؤلاء -عن قصد على ما يبدو- أن قوات الاحتلال هي التي أشعلت فتيل التصعيد، وليس الفلسطينيين، وذلك من خلال حملة اعتقالات واسعة استهدفت النشطاء، ثم باغتيال القيادي في حركة الجهاد الإسلامي تيسير الجعبري، وأخيراً الإعلان عن عملية عسكرية أطلقوا عليها اسم "الفجر الصادق" في غزة، والتي أشاروا إلى أنها قد تستمر لعدة أيام، وكل ذلك قبل أي تصريح أو رد فعل من الفصائل الفلسطينية.
- الفئة الثانية: تتألف من بعض أنصار الثورة السورية -من داخل سوريا وخارجها- الذين أعرب بعضهم عن تضامنهم "فقط مع الشعب الفلسطيني" في غزة، واستثنوا فصائل المقاومة، وخاصة حركتي الجهاد وحماس، بسبب علاقاتهما بإيران وحزب الله، وربما النظام السوري مستقبلاً. بينما ذهب آخرون -وهم قلة- إلى حد الشماتة أو عدم الاكتراث بالمواجهة ونتائجها وتداعياتها، بحجة أن الفصائل التي تقود المقاومة لها علاقات وثيقة مع إيران ومحورها في المنطقة.
أما عن الدوافع وراء تبني هذه المواقف، فقد صرح المنتمون إلى الفئة الثانية عبر وسائل التواصل الاجتماعي بأنهم ينطلقون من مبدأ أخلاقي يرتبط بشكل أساسي بالثورة السورية، ومفاده أن حركتي حماس والجهاد تحديداً (اللتين تتصدران العمل المقاوم في فلسطين) تربطهما علاقات قوية بإيران، وهما تثنيان عليها لدعمها لهما، بينما وقفت إيران وما زالت إلى جانب نظام الأسد في مواجهة الثورة وجزء كبير من الشعب السوري، مما يجعلها شريكة له في أفعاله ومسؤوليته.
معضلة الميزان الأخلاقي
إذاً، فإن منطلق الشريحتين في مواقفهما -مع وجود تباين كبير بينهما في الدوافع والأهداف والأسلوب؛ وبالتالي نظرة التقييم لكل منهما- هو علاقة فصائل المقاومة الفلسطينية بإيران. وبينما تعبر الفئة الأولى عن قناعات راسخة واصطفافات معروفة وأهداف مكشوفة؛ وبالتالي لا تستحق النقاش، فإن الفئة الثانية تنطلق من نوايا حسنة، وثمة ضرورة ملحة للحوار معها.
على صعيد الحقائق، تمتد علاقة الحركتين (الجهاد وحماس) بإيران لعقود طويلة، أي أنها أقدم من الثورة السورية، وهي تقتصر، وفقاً لما أعلنته الحركتان، على مواجهة الاحتلال "الإسرائيلي" فحسب، ولا تشمل أي جوانب أخرى من سياسة طهران الخارجية أو مشروعها الإقليمي، سواء دعماً أو تزكية، فضلاً عن الانخراط فيه.
في الوقت الذي يتهم فيه بعض النشطاء والعديد من رواد وسائل التواصل الاجتماعي حماس بالانحياز إلى جانب النظام، ما زال الأخير يتهمها بمحاربته ودعم الثورة السورية ضده إعلامياً وميدانياً، ولا تزال تصريحاته والمواد الإعلامية الصادرة عنه سلبية تجاهها، بما في ذلك ما يتعلق بالمواجهة الأخيرة
وحتى الثناء الذي أطلقه الرئيس السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، والذي أثار جدلاً واسعاً وانتقادات قاسية لحماس، ولا يزال يتردد صداه، جاء من زاوية دعمه للمقاومة الفلسطينية، وليس للأدوار التي لعبها في كل من سوريا والعراق.
فيما يتعلق بالثورة السورية تحديداً، لم تتخذ أي من الحركتين موقفاً منحازاً للنظام. فقد توزعت قيادة حركة الجهاد على عدة دول دون الإعلان رسمياً عن مغادرة سوريا، مما أدى إلى فتور في علاقاتها مع النظام التي تحسنت جزئياً بعد سنوات عديدة. في المقابل، فضلت حركة حماس مغادرة دمشق علانية، لتجنب دعم النظام أو تبني روايته وعدم انتهاك مبدئها في عدم التدخل في شؤون الدول والوقوف على الحياد في حالات الاستقطاب والمشاكل الداخلية فيها.
أما على صعيد "أخلاقية" الموقف، فإنه في حال صحت التقارير التي تحدثت عن احتمال عودة العلاقة بين النظام السوري وحماس، والتي لم تعلق عليها الأخيرة رسمياً حتى الآن، فإنها لا تعني اصطفافها إلى جانب النظام أو تبني روايته أو الوقوف معه ضد شعبه.
الجدير بالذكر أن هذه المقاربة لا تُستخدم بنفس الحدة في مواجهة الفصائل الفلسطينية فيما يتعلق بعلاقاتها مع أنظمة أخرى ليست فقط في مواجهة مع جزء من شعبها مثل النظام السوري، بل لها أيضاً موقف عدائي تجاه الفصائل الفلسطينية نفسها، وهي قرينة إضافية على أن نسج العلاقات لا يعني بالضرورة تبني المواقف، فضلاً عن الانخراط في المشروع.
والأكثر من ذلك، فمن المفارقة أنه في الوقت الذي يتهم فيه بعض النشطاء والعديد من رواد وسائل التواصل الاجتماعي حركة حماس بالانحياز إلى جانب النظام، ما زال الأخير يتهمها بمحاربته ودعم الثورة السورية ضده إعلامياً، بل وحتى ميدانياً، ولا تزال تصريحاته والمواد الإعلامية الصادرة عنه سلبية تجاهها، بما في ذلك ما يتعلق بالمواجهة الأخيرة.
وأخيراً، كيف يمكن لأي جهة أو شخص يدعي التحلي بالأخلاقية في تقييمه السياسي أن يقف على الحياد في مواجهة بين المقاومة الفلسطينية، مهما اختلف معها أو عتب عليها، وقوات الاحتلال التي ما زالت كل الشعوب العربية تعتبرها عدواً مشتركاً، إذ يتخطى مشروعها الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية ليستهدف المنطقة بأسرها؟
4 ملاحظات جديرة بالذكر
يمكن إجمال أربع ملاحظات رئيسة تتعلق بهذا الخطاب:
- أولاً: أنه يفتقر إلى الموضوعية عندما يعتبر مجرد الرغبة في إقامة علاقة مع النظام (بغض النظر عن الرأي فيه) تحالفاً معه في ما واجهه من صراعات داخلية، أو متاجرة بالدم السوري، وما شابه ذلك من المقولات العاطفية المبالغ فيها التي لا تستند إلى وقائع أو معلومات أو منهجية سليمة.
- ثانياً: أنه يكاد يقتصر على حالة الفصائل الفلسطينية، ولا يشمل أطرافاً أخرى ليست فقط على وشك إقامة علاقات مع النظام، بل تعلن صراحة أنها تربطها به علاقات بالفعل، بل وربما تعرض الدعم والتعاون، ولكن يبدو أن كلفة الهجوم على الفصائل الفلسطينية أقل بكثير من انتقاد أي طرف آخر، وبالتالي فهو فعل لا يترتب عليه أي ثمن.
- ثالثاً: ولعلها الأهم، أن هذه الشريحة متأثرة بدرجة أو بأخرى بخطاب بعض الهيئات والتيارات الإسلامية -السورية وغيرها- التي وجهت انتقادات حادة لحماس وصلت إلى حدود التشويه والتخوين، بل إن بعضها أصدر بيانات لتبرير مجرد لقائه بقيادة الأخيرة.
- رابعاً: أن ظاهرة الهجوم والتشويه والتخوين مع المخالف ضارة جداً بمن يتبناها وينتهجها، وليس فقط مع الآخرين، ولعلها كانت من بين الأسباب التي أدت إلى إخفاق الثورة السورية، حيث انتشر بين المنتسبين إليها الخلاف الحاد والاتهامات المغلظة التي لم يسلم منها أحد تقريباً.
في الختام، لا يناقش المقال قرار حركة حماس المفترض بإعادة العلاقة مع النظام السوري من زاوية أسبابه وأهدافه، ولم يقدم تقييماً للأمر الذي يقع خارج نطاقه ويتطلب نقاشاً مستقلاً وموسعاً. والأهم من ذلك، أن كاتب هذه السطور لا يصادر حق النقد، بل والاختلاف الشديد مع الفصائل الفلسطينية، خاصة فيما يتعلق ببعض هفواتها الإعلامية وخطابها المبالغ فيه أحياناً، ويرى ذلك حقاً مشروعاً، بل وأحياناً واجباً. ولكنه يحذر من خطورة المبالغة في النقد وتجاوزه إلى التخوين والتشويه، بما لا يحقق مصلحة لا للقضية الفلسطينية ولا السورية، وبما يشكل خطراً، على أقل تقدير، من حيث إثارة الضغائن وإذكاء الحساسيات وكسب العداوات بدلاً من الصداقات وفتح معارك جانبية.
إضافة إلى ما سبق، وهو الأهم، يلقي المقال الضوء على زيف الادعاء الأخلاقي في خطاب من يقفون على الحياد بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال في مواجهة كهذه. ولا يوجد مبرر لمن يدعي التضامن مع الشعب الفلسطيني مع تخوين فصائله المقاومة؛ فالقضية الفلسطينية ليست مفهوماً مجرداً، بل هي نضال شعب تقوده فصائل المقاومة، خاصة أنه لم يصدر عنها على مدى سنوات الثورة السورية أي تصريح أو موقف ينحاز ضد مطالب الشعب أو ثورته، فضلاً عن أن يكون لها موقف ميداني في هذا السياق، على الرغم من الكثير مما يشاع خطأ في هذا الاتجاه، مع الاحتفاظ بمساحة الخلاف والاختلاف والنقد المتوقعة.